بعد سبع سنوات من الصراع، يحتاج الشعب السوري على وجه الاستعجال إلى خطوات ملموسة في اتّجاه إيجاد حلّ سياسي يؤدّي إلى الأمن والسلام والاستقرار.
وقد أثارت الاتّفاقات التي أسفرت عنها محادثات أستانا التي تقودها روسيا مخاوف من الاتّجاه في مسار غير مُستدام للتقدّم بالعملية، الأمر الذي يمكن أن يؤدّي إلى المزيد من العنف وعدم الاستقرار وانتشار التطرّف. وفي حين أن محادثات السلام التي تقودها الأمم المتحدة لم تحرز تقدّماً كبيراً، فإنه من المهمّ أكثر من أي وقت مضى دعمها. حيث أن المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة هي المحفل الوحيد القابل للتطبيق، والذي ستُؤخذ فيه احتياجات وتطلّعات المدنيين السوريين في عين الاعتبار، ومن المهمّ تعزيز المحادثات لكي تعكس هذه الاحتياجات والتطلّعات، ممّا يساعد على جذب المزيد من الانتباه وبناء الثقة وكسب الدعم على الأرض. ولهذا السبب، أعدّ مركز المجتمع المدنيّ والديمقراطيّة رؤية للعملية السياسية في سوريا، لتحديد الخطوات العملية نحو المستقبل، استناداً إلى آراء المدنيين السوريين وأعضاء من المجتمع المدنيّ، حيث أنهم يمثّلون الجهات الفاعلة الأكثر استعداداً لإيجاد سبيل للمضي قدماً، ومن سيتفاوض ويخطّط على نحو عاجل وصادق.
وتحدّد ورقة الرؤية هذه المبادئ والعناصر الرئيسة التي ينبغي إدراجها في أي اتّفاق للسلام وخطّته التنفيذية لضمان استدامته على المدى الطويل وقبوله على نطاق واسع على الأرض. وقد تمّ تطوير الرؤية من خلال عملية تشاورية شارك فيها أكثر من 40 شخصاً يعملون مع مجموعات وشبكات من المجتمع المدنيّ في سوريا، وسوف تخرج الرؤية لمزيد من النقاش والتشاور. تعتمد الرؤية على خبرة السوريين الكبيرة الذين يعيشون في مناطق مختلفة من البلاد، ومساهمات من خبراء دوليين، بالإضافة إلى عمل مركز المجتمع المدنيّ والديمقراطيّة بما في ذلك منشوراته بشأن مبادئ للمحادثات السوريّة الناجحة والرؤية الأولى حول السلام. إن الهدف من نشر هذه الرؤية للعمليّة السياسيّة في سوريا هو المساهمة في الحوار الجاري، وتحديد طريق بعيد عن الصراع يمكن أن يكون مقبولاً لدى السوريين على أرض الواقع.
تستخدم الرؤية كإطار “السلال” الأربعة للمفاوضات السياسية التي حدّدها المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا. والسلال الأربعة هي: الحَوْكَمة، والدستور، والانتخابات، وإجراءات بناء الثقة بما في ذلك الأمن ومكافحة الإرهاب. وتركّز رؤية مركز المجتمع المدنيّ والديمقراطيّة على بناء مصداقيّة واستدامة أي عمليّة انتقال من خلال المساواة في إشراك جميع المجتمعات السوريّة، والتركيز على مشاركة المجتمع المدني والمرأة، ووجود آليّات واضحة لتعزيز الشفافية والمساءلة للشعب السوري طوال العمليّة.
الحَوْكَمة
تماشياً مع قرارات الأمم المتحدة المتعلّقة بسوريا، فإن جوهر رؤية مركز المجتمع المدنيّ والديمقراطيّة هو هيئة حكم انتقالي لإدارة الانتقال السياسي في سوريا. ولضمان تطوير نظام ديمقراطي تعدّدي يمهّد السبيل لتحقيق الرخاء الاقتصادي والسلام المُستدام في سوريا، يجب أن تشمل المبادئ والإجراءات الأساسية التي تقوم بها هيئة الحكم الانتقالي: ضمان استمرار عمل المؤسّسات والخدمات العامة؛ وضمان حماية حقوق الإنسان والحرّيات العامة؛ وضمان تمثيل المرأة بنسبة 30% على الأقل في جميع المؤسّسات والهيئات؛ وضمان فصل السلطات. يجب أن تشمل العضوية في هيئة الحكم الانتقالي جميع الأطراف وممثّلين عن المجتمعات السوريّة المختلفة على أن تكون الهيئة مكوّنة ممّا لا يقلّ عن 30% من النساء. ويجب ألّا تشمل العضوية المتّهمين بانتهاكات حقوق الإنسان أو الفساد.
العمليّة الدستوريّة
لضمان وجود دستور يُسهم في تحقيق السلام والاستقرار المُستدامَين في سوريا، تحدّد الرؤية عملية دستورية شاملة وتشاورية. وتشمل هذه العملية لجنة صياغة الدستور المكلّفة بإعداد الميثاق الدستوري الانتقالي، ولجنة الحوار الدستوري الموازية والتي تتألّف من ممثّلين عن المجتمع المدنيّ؛ لتسهيل عملية جمع آراء الناس والتوعية بشأن مسوّدة الدستور وموادّه. ويجب أن تعمل هيئة الحكم الانتقالي بالتوازي مع العملية الدستورية لمعالجة العوائق القانونية المتعلّقة بموضوع الجنسية والوثائق الثبوتية استعداداً لإجراء استفتاء شامل وإجراء انتخابات. وهذا يعني معالجة العوائق القانونية أمام المشاركة وتوسيع نطاق المواطنة والحقوق وبطاقات الهوية لأولئك الذين تمّ منعهم من الوصول إلى الوثائق القانونية، مثل الأكراد والنازحين واللاجئين. وينبغي ضمان الإدماج الكامل والموضوعي للمرأة في جميع مراحل العملية الدستورية من خلال تخصيص نِسَب للمشاركة (كوتا) واتّخاذ عدد من التدابير، بما في ذلك مشاركة المرأة بنسبة 30% على الأقل في لجنة الصياغة و 40% في لجنة الحوار. كما يجب أن يضطلع المجتمع المدنيّ بدور رئيسي في إجراء المشاورات المجتمعية للمساعدة في تحقيق أوسع نطاق ممكن من التواصل والمشاركة.
الانتخابات
تتناول رؤية مركز المجتمع المدنيّ والديمقراطيّة في مجال الانتخابات الأسئلة الرئيسة حول إدارة الانتخابات، والإشراف على العمليّة، والمشاركة السوريّة. حيث أنه لتحقيق انتخابات حرّة ونزيهة، فإن المبادئ والآليّات الأساسية تشمل المساواة في الحصول على الموارد العامّة للمرشّحين, آليّات مراقبة واضحة تسهّل المشاركة الواسعة للمجتمع المدنيّ السوري, ودعم مشاركة المرأة بما في ذلك تخصيص نسبة (كوتا) 30% للمرشّحات في الانتخابات المحلّية والبرلمانية. ولتوسيع نطاق المشاركة خارج سوريا، ينبغي إنشاء آليّات، مثل مراكز الاقتراع في مناطق اللجوء والمخيّمات وتسجيل الناخبين السوريين من خلال الأمم المتحدة. ويجب أن تكون هيئة الحكم الانتقالي مسؤولة عن الإدارة الفعّالة للانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، ويجب أن تتولّى إدارة العملية لجنة عليا للانتخابات تعيّنها هيئة الحكم الانتقالي.
الحوار الوطني
توصي الرؤية بإجراء حوار وطني رسمي بعد التوقيع على اتّفاق السلام، حيث يجب أن يتمّ تنفيذه من قبل لجنة الحوار الوطني التي سيتمّ الاتّفاق عليها خلال المفاوضات وستصادق عليها هيئة الحكم الانتقالي. وينبغي أن تتألّف هذه اللجنة من جميع الأطراف بما في ذلك الحكومة والمعارضة وممثّلو المجتمع المدنيّ. يجب أن تكون عملية الحوار شاملة لجميع المجموعات العرقية والدينية في سوريا، وأن تشمل مشاركة المرأة بنسبة 30% على الأقلّ، وتبدأ على المستوى الشعبي من “المسار الثالث”. يجب أن تُعطى عملية الحوار الوطني 24 شهراً، وأن تتمّ بالاقتران مع العمليّة الدستورية، حيث ستجري على ثلاثة مستويات:
1) بدءاً من القاعدة الأفقية الواسعة التي تضمّ المحافظات السورية مع البلدان المجاورة ومناطق النزوح.
2) الانتقال إلى مستوى أعلى يضمّ ممثّلين عن الحوارات المحلّية وقادة المجتمع المحلّي ومنظمات المجتمع المدنيّ والأحزاب.
3) الحوار على مستوى المؤتمر الوطني العامّ.
منع ومكافحة الإرهاب
إن أحد أهمّ مهام هيئة الحكم الانتقالي هو منع ومكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومنع انتشار التطرّف. ولتحقيق ذلك، من الأهمّية بمكان أن تواصل هيئة الحكم الانتقالي العمل على إجراءات بناء الثقة، والتي تركّز على القضايا الجذرية التي تغذّي الإرهاب والتطرّف. ويجب أن تشمل الجهود تعزيز وإنفاذ وقف إطلاق النار وحماية المدنيين، فضلاً عن الشروع في حوار مجتمعيّ للبدء في معالجة التوتّرات والأضرار الناجمة عن الصراع. وينبغي توجيه الجهود إلى المناطق المحاصرة والمتضررة لتوثيق آثار الحصار على المجتمعات المحلّية وإنشاء آليّة لتعويضها. كما يجب القيام بعمل مكثّف بشأن ملفّ المعتقلين، بما في ذلك إنشاء آليّة للكشف عن مصير وأماكن وجود جميع المعتقلين والمختطفين والمختفين قسراً؛ وتيسير الإفراج عن المعتقلين؛ وضمان حيادية النظام القضائي وإعادة هيكلته للبتّ في حالات الاعتقال.
إن إعادة هيكلة المؤسّسات الأمنية والعسكرية وتوحيد قيادتها في إطار إدارة مدنيّة، هي واحدة من أكثر المهامّ تحدّياً التي تواجه هيئة الحكم الانتقالي. وتتضمّن الرؤية تحليلاً مستفيضاً للإصلاحات العسكرية، وتتضمّن توصيات بشأن عملية المراقبة لضمان امتثال المؤسّسات الأمنية وتعميم مراعاة المنظور الجنساني لمنع انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل، وتيسير مشاركة المرأة مشاركة كاملة في المؤسّسات الأمنية. وتشمل التوصيات أيضاً معايير التجنيد في جهاز الشرطة ومشاركته مع المجتمعات المحلية وآليّات مكافحة الإرهاب، مع التسليم بأن القوة العسكرية وحدها غير كافية. فالإرهاب له جذور اجتماعية واقتصادية وثقافية، ومن الأهمّية بمكان بالنسبة لاستقرار سوريا على المدى الطويل ألّا تصبح الحرب ضدّ الإرهاب ذريعة لتحقيق مكاسب سياسيّة.